قصائد للشاعر محمد ولد إمام
أضَعْناكِ
قدْ أضَعْناكِ خيفةً ونِفاقا يا شَآماً فيها الجراحُ تَلاقى
نحنُ خُنّا يا شامُ قبلَ الأعادي وافْترقنا وما مَللْنا افْتراقا
تَلْعَبُ الرُّومُ فيكِ والفرسُ والرُّو سُ ولا هَبَّةٌ تَفُكُّ الوثاقا
لم يعدْ في خيولِ حمدانَ حزْمٌ ينشـرُ المجدَ فيكِ والأخلاقا
حدِّثينا يا شامُ عن حَلَبَ الشَّهْـ ـباءَ أيَّامَ تَمْلأُ الآفاقا
أنشِدينا روائعَ المتنبِّي تَتَلالى على المدى إشراقا
وفِراسُ القصيد يملأ فيكِ الْــ ـأرضَ بالحبِّ والمدى عُشَّاقا
بَرَدى كيفَ لم يعدْ جَدولاً لِلْــ ـعِشقِ ينسابُ منهلاً رقْراقا
يَمَنُ السعدِ ضاعَ والقدسُ ضاعتْ وأَضَعْنا من بَيْنِهِنَّ العِراقا
وذِهِ الشامُ تغتذي كلَّ يومٍ دَمَها الطاهرَ النقيَّ المُراقا
فَلَنا أدمُعٌ من الحزنِ جفَّتْ وقلوبٌ كادت تذوبُ احْتراقا
ربِّ إنَّا خُنَّا الأماناتِ والعهْـ ـدَ فجازَيْتَنا جَزاءً وِفاقا
تاريخنا !
رُبْعُ قرْنٍ ولَمْ نَزَلْ في اكْتِئابِ واخْتِلافٍ ودَمْعُنا في انْسِكابِ
رُبْعُ قرْنٍ مضـى. وداحِسُ والغَبْــ ـراءُ فينا موْصولَةُ الأنْسابِ
رُبْعُ قرْنٍ به اسْتَقالتْ أمانيـ ـنا ومَلَّ السحابُ عُقْمَ الترابِ
نَحْسبُ الدهرَ واقِفاً وهْوَ ماضٍ كالرَّواسي تَمُرُّ مَرَّ السحابِ
رُبْعُ قرْنٍ وفي المَحاجِرِ ثُكْلٌ والعَصافيرُ آذَنَتْ بِغِيابِ
ونُواحُ الخُيولِ في الأذْنِ وَقْرٌ كَبُكاء النخيل والأعنابِ
خَيْبةٌ بعد خيبةٍ.. وانْقِلابٌ لِدَواعي الثراء بعدَ انْقِلابِ
لمْ نزلْ في انتظار عهدٍ خَلوفٍ ووُعودُ السُّـرَّاقِ محضُ سرابِ
انْتِصاراتُنا وُعودٌ.. وآفا قُ رُؤانا شاختْ بعـصْرِ الشبابِ
لم نزلْ في انتظار فجرٍ نسينا شَكْلَهُ بعد كلِّ هذا الضبابِ
قد دَقَقْنا لِمَنْشِمٍ ألفَ عِطْرٍ فافْترقْنا تَفَرُّقَ الأغرابِ
لا تَلوموا على النحيبِ فؤادي فهْوَ بوحٌ بخَيْبَتي واغْتِرابي
لَهُمُ في الجُحودِ والظلْمِ أسْبا بٌ ولي في انْتِقادِهمْ أسْبابي
وطني رغْمَ كلِّ تِلكَ المآسي في هوانا ورغم كلِّ الصعابِ
ها أنا اليومَ جئتُ ألْقاكَ جَذْلا نَ لِقاءَ الأحْبابِ بالأحبابِ
وجْهُك المُثْقَلُ المَلامحِ وجْهي وعذابُ الغُضون فيكَ عذابي
تحية الروابط الشبابية
تَحِيَّتُنا إلى جَمْعٍ تَنادى لِفِعْلِ الخَيْرِ فاتَّحَدَ اتِّحادا
نُناديكُمْ لِضَمِّ الشمْلِ مِنْكمْ فَأنتُمْ مُفْرَدٌ عَلَمٌ مُنادى
فَوحْدَةُ صَفِّنا حُلمٌ قَديمٌ نَرى فيه السيادَةَ والسدادا
وقدْ صِرْنا نُحاوِلُها جميعاً وقدْ كُنَّا نُحاوِلُها فُرادى
لنا سَلَفٌ بنى أمْجادَ فخْرٍ بها الأدْنى مع الأقـصى أشادا
فَسَلْ عنهُ المَحاظِرَ شاهِداتٍ وسَلْ ألْواحَها وسَل المِدادا
بنى أمْجادَه كَرَماً وعِلْماً وحارَبَ عن مكانتِه وذادا
فأبْقى بعدَه ذِكْراً جميلاً وشادَ عُلىً بها رَفَعَ العِمادا
وشيَّدَ بالمعارفِ والمَعالي صُروحَ المجدِ سادَ بها وقادا
فقودوا مثْلَما قدْ قاد قِدْماً وسودوا مثلَما قدْ كانَ سادا
فَانْتُمْ جيلُنا المأمولُ فينا لكمْ نُلْقي القِيادةَ والقِيادا
أعيدوا ما عَجزْنا نحنُ عنه أعيدوا المَجْدَ والشّـَرَفَ التِّلادا
أعِدّوا ما اسْتَطَعْتُمْ مِن عَتادٍ بِعِلْمٍ تُكْمِلونَ به العَتادا
ولا لا تَسْمَعوا مِنَّا عَذولاً لِعَجْزٍ فيهِ يَنْتَقِدُ انْتِقادا
دَعوهُ رَهينَ ماضٍ عاشَ فيه تَمادَوا في التَّعاضُدِ إنْ تَمادى
ولا لا تَرْكَنوا إمَّا عَذَلْنا وأسْمَعْناكُمُ العَذَلَ المُعادا
ولا تُلْقوا بِأيْديكُمْ إلى ما يَزيدُكُمُ افْتِراقاً وابْتِعادا
بلى فَتَزَوَّدوا عِلْماً وتَقْوى فَتَقْوى اللهِ خيرُ الزادِ زادا
أَعِدّوا عُدَّةً عَمَلاً وصَبْراً وجِدّاً واعْتِداداً واجْتِهادا
ونَحْنُ لَكُمْ يَدٌ ولَكُمْ ظَهيرٌ إذا عُدْتُمْ إلى الإجْماعِ عادا
أدامَ اللهُ وِحْدَتَنا جميعاً أدامَ العِزَّ فينا والوِدادا
لَكُمْ مِنّي تَحايا فاقْبَلوها نَصائِحَ وامِقٍ إنْ زيدَ زادا.
حكاية "قبل الرحيل"
على سلَّم البوحِ
صوتٌ يردد منذ البداية نفسَ الحكايةْ..
يشدُّك نحوَ النهايةْ
كأمٍ تضمُّ وتحكي لطفلٍ حكايةَ "قبل الرحيلْ"
تحدثُه عن توابيتِ يَمٍّ رحيم..
وعن زُرقةِ اللُّجِّ وقتَ الأصائلْ..
إلى أن يذوبَ الكلامُ على شفتيها..
...
إلى آخر الليلْ.. إلى أولِ السُّهدْ.. يُطوِّق ذا الأزرقُ الهادرُ الموجِ أحلامَه..
ويحملها من ندى البحرِ نحوَ يَبيسِ العُمُرْ.
ليعشو إلى ضوء شيبٍ يئنّ..
من الليلِ والسنواتِ العجافْ!
يفيءُ إلى نفحةٍ من هواءْ..
إلى لفحةٍ من هوى!
ولكنها تتلاشى سريعاً وتذهب بين شُقوقِ المساءْ!
...
ويفجَؤهُ القمرُ الحالمُ القرمزيْ يغازلُ بعضَ الغيوم..
ويحكي له قصصاً عن رحيل الأوائلْ
وكيف الرياحُ جرتْ بالذي ليسَ تهوى السفنْ.
وكيفَ يموت الطموحُ ويفنى الهوى والعمُرْ..
إذا لم يُعشْ.
...
تقولُ ليَ الريحُ نحنُ صديقانْ.. كلانا بلا وطنٍ وكلانا رفيقُ سفرْ
ويحكي ليَ البدرُ عن أعينٍ راقبتهُ وناجتهُ أدمعُها..
وعن أولِ الدهشةِ المشتهاةِ بليل الحنين..
ويحكي ليَ البحرُ، ذاك الصديقُ القديم،
حكايا عن الحوريات.. وعن قصص الموت تحتَ القوارب..
وآخر صيحات من وثقوا بالرياح..
وعن آخر الحُلمِ.. عن آخر الهجرِ.. والهجرةِ القاهرةْ..
وعن برزخِ الموجِ.. عن عربداتِ السفينْ.
...
أرى من بعيد.. بعيد..
وجوهاً تنادي فيخرجُ منها:
ضياءٌ
وحلمٌ كسيح..
وآثارُ حب عتيق..
ورملٌ يشي طعمُه بالملوحة..
...
أشُدُّ العوارضَ عوداً فعوداً لعلي أخادع هذي الرياح..
لعليَ أنجو من الموجِ.. من عنفه المستبد..
من الشيءِ والضد..
لعلي على الرمل أصحو.. وضوءِ الشفق..
وصحراءَ بيضاءَ لا تنتهي..
تجاذبني البوحَ بالبوح.. واللامبالاة باللامبالاةْ!.
فيصفعني ذلك الصوتْ..
على شاطئ البحرِ.ِ.
صوتٌ يردد منذ البداية نفسَ الحكايةْ!
أفرُّ من قدرٍ.. أسعى إلى قدرِ
أفرُّ من قدرٍ.. أسعى إلى قدرِ
أنا المُزاوجُ بين العينِ والأثرِ!
مُحاولاً لمَّ أشلاءٍ تناوشَها
صرفٌ من الدهر لا يلوي على الخطر
تلك الطموحات هل تخبو شرارتُها؟
والعمر يعدو على بعدٍ من الوطرِ
وحدي مع الليل.. والنجوى تقاذَفُني
بحثاً عن النورِ في التاريخِ والسيَرِ
وحدي..وأوجه مَن ساروا ترافقُني
لم تُبقِ من عبرةٍ حرّا ولم تذرِ
وحدي.. ولليل آلافُ الوجوهِ وفي
صداهُ أعْلَق بين اللحن والوتر!
يا راحلين وعين الليل تحرسهُم
هلا قصصتم علينا صحةَ الخبرِ
جئنا ونورٌ من الآمالٍ يفتنُنا
يُغري بما في المدى من مُزهرٍ عطِرِ
وسوف نذهب لا سمعٌ ولا بصرٌ
إلى مدىً جازَ حدَّ السمعِ والبصرِ
لهفي على صامتٍ والنطقُ حُقَّ له
لهفي على سائرٍ منا ولم يسرِ!
اشتقتُ للملأ الأعلى.. فمنذُ وعت
عيني وروحيَ تدعوني إلى السفرِ
تدعو إلى أصلها العلويّ.. منبعِها..
إلى طيوبٍ من الأحزاب والسورِ
إلى مقامٍ سما فوقَ السِّماكِ إلى
أعلى من الشُّهْب أو أرقى من القمرِ
مودِّعاً ذكرياتٍ كنتُ أوثرُها
وأسطراً نُحتت بالنابِ والظُّفُرِ
حاولتُ فيهنَّ نحتَ العمرِ أنقشُه
حتى أُغادرَه كالنقشِ في الحجرِ
حاولتُ.. حاولتُ يكفيني بذا شرفاً
إن قيلَ حالولَ تكفيني من الظَّفَرِ!
جراب الأمنيات!
على قلقٍ أجولُ بأمنياتِ
بأبكارٍ هناكَ وثيِّباتِ
أبيتُ مسامرَ الذكرى أزجّي
سحائبَ من هموم ماطراتِ
أقاتلُ من وجوه الغيب جيشاً
تلألأ في نجوم سائراتِ
وشعرٍ لم يُقل قد كان أسمى
معانيَ من جميع معلّقاتي!
سقيتُ بخمره البؤساءَ حتى
أغرتُ الدِّنَّ من خمر الدواةِ
وبئس الشعر يُحرمه حفاةٌ
عراةٌ ثم يسكبُ للولاةِ
ولي في كعبة المعنى طوافٌ
يزينُه رنينُ التلبياتِ
ركبتُ إلى المعاني العيسَ تخدي
وأصنافَ الجياد الصافناتِ
وكنتُ رفيقَ مكتبتي فما لي افـ
ـتِتانُ بالعزالِ ولا المَهاةِ
فنادمتُ العقولَ وقد تولّتْ
كأن القومَ عادوا للحياةِ
ففي كلِّ العصورِ وجدتُ صًحباً
على رغم المسافة واللغات!
فآخيتُ الثلوجَ مع الصحاري
وزاوجتُ البحارَ مع الفلاةِ
فإن يخن الزمانُ فذاك طبعٌ
ففي الصفحاتِ مخزنُ ذكرياتي
وفي بسماتِ أوجهِ أصدقائي
وفي تكشيرِ أفواهِ العداةِ
وما خان الكتاب ولم أخنه
وما جرّبتُ خونَ الترجماتِ
وقمتُ بما يراه المجدُ حقاً
ويُنصفُني إذا قامت نُعاتي
وسوفَ أظلُّ ضدَّ الظلمِ أشدو
مع الإنسانِ في ماضٍ وآتِ
ومثلَ الأمهات عليه أحنو
ومَن يحنو حنوَّ الأمهات؟
وما خنتُ التصوّفَ في فؤادي
ولم أجرح ظلالَ تأمُّلاتي
وقد حاولتُ قد حاولتُ جهدي
وتكفيني جُهودُ محاولاتي!
اختراق..
إلى ذكراكِ يدفعني الحنينُ
لعهدٍ لا يهونُ ولا يُهينُ
هنالك في غياباتِ الأعالي
يحنُّ إلى ضياء النارِ طينُ
إلى حيث الوجودُ يلوحُ طيفاً
خرافياً يراقبُه الظنينُ
إلى صوتٍ يلوِّحُ لي بعيداً
أن اقطفْ قبلَ يبتلُّ الجبينُ
إلى عينٍ تضنُّ عليّ لحظاً
ولكنّي بمرآها الضنينُ
لِذكرى تنمحي شيئاً فشيئاً
فينحِتُها على الجُدُر السجينُ
بقايا من أصادقَ خلّفونا
على الأوراق خطاً لا يُبينُ
مضوا غصباً وحادثةُ الليالي
تعودُ إذا مضتْ والعُمرُ حينُ
ضحكتُ وفي فؤادي ألفُ جرحٍ
وفيه النارُ يُذكيها الأنينُ
وعاثتْ في الحشا سبعٌ عجافٌ
ولا عامٌ أُغاثُ به يُعينُ
أحبُّ وتكرهُ الدنيا إزائي
وأحزنُ إن بكى طفلٌ حزينُ
رمتني غابة الدنيا سهاماً
وملءُ القلبِ وردٌ.. ياسمينُ
وأحببتُ الألى ظلموا ودادي
وبعضُ الحب فخٌّ أو كمينُ
وفي صمتي صرختُ بألف صوتٍ
وبعضُ الصمتِ تعبيرٌ مبينُ
زرعتُ العمرَ أزهاراً وفُلاً
ولكنْ شوكُ دهري لا يلينُ!
فذي أعمارُنا أضغاثُ حلم
تساوى الشكُّ فيها واليقينُ
وقد حاربتُ جهدي كلَّ شرِّ
ولكنْ شرُّنا حصنٌ حصينُ
ورمتُ لسدرةِ الأعلى اختراقاً
ولكني بأرضيتي رهينُ..